• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

فتنة : أمر الشورى واختلاف الآراء

الملل والنحل : الخلاف التاسع في أمر الشورى واختلاف الآراء فيها ، حتى اتّفقوا كلّهم على بيعة عثمان وانتظم الملك . (1)
البدء والتاريخ : وكان قال لعبد الله بن عبّاس : اذكر لي مَن أعهد إليه ؟ فقال : عثمان ! فقال : ذاك كلِفٌ بأقاربه ، يَحمل بني ابن أبي معيط على رقاب الناس . قال : فعبد الرحمن بن عوف ! قال : مسلمٌ ضعيف ، وأميرته امرأته ! قال : فسعد ! قال : ذاك فارس يكون في مقنب من مقانبكم . قال : فالزبير ! قال : مؤمن الرضا كافر الغضب . قال : فطلحة ! قال : فيه باء وعجب . قال فعليّ ! قال : فيه دعابة وأنّه لأخلقهم أن يحملهم على المحجّة . ثمّ جعل الأمر في هؤلاء الستّة باختيارهم ، وقال : إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرّها ، فمن عاد إلى مثلها من غير مشورة فاقتلوه . (2)
أقول : إذن اعترف بأنّ علياً (ع) لأخلقهم أن يحملهم على المحجّة ، فكيف عدل عنه وجعله في عدادهم ، مع إقراره بضعف إسلام عبد الرحمن ومقهريته ، وبأنّ عثمان كلِف بأقاربه يحملهم على رقاب الناس ، وهكذا الآخرون .
ثمّ أنّ بيعة أبي بكر على ما وقعت ، إن كانت صحيحة ومشروعة شرعاً وعقلاً : فكيف يحكم بقتل من عاد إلى مثلها . وإن كانت باطلة : فكيف أعان عليها وحكم بقتل من خالفها ، وحضر لإحراق باب أهل البيت ، ألم يمكن لهم أن يتذكّروا ويذكروا ما وصى لهم رسول الله (ص) في عليّ بن أبي طالب (ع)
البخاري : فقالوا : أوص يا أمير المؤمنين استخلف ! قال ( عمر بن الخطاب ) : ما أجد أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين تُوفى رسول الله (ص) وهو عنهم راض ، فسمّى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن ، وقال : يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء كثيئة التعزية ، فإن أصابت الإمرة سعداً فهو ذاك ، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر ، فإنّي لم أعزله عن عجز ولا خيانة ...
فلما فُرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط ، فقال عبد الرحمن اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم ! فقال الزبير : قد جعلت أمري إلى عليّ ، فقال طلحة قد جعلت أمري إلى عثمان ، وقال سعد قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف ، فقال عبد الرحمن أيكما تبرّأ من هذا الأمر فنجعله إليه ، والله عليه والإسلام لينظرنَّ أفضلهم في نفسه ! فأُسكت الشيخان ، فقال عبد الرحمن : أفتجعلونه إليّ ، والله عليّ أن لا آلوا عن أفضلكم ! قالا : نعم ، فأخذ بيد أحدهما فقال لك قرابة من رسول الله (ص) والقِدم في الإسلام ما قد علمت ، فالله عليك لئن أمّرتُك لتعدلنّ ، ولئن أمّرت عثمان لتسمعنّ ولتُطيعنّ ! ثمّ خلا بالآخر ( عثمان ) فقال له مثل ذلك ، فلمّا أخذ الميثاق ، قال : أرفع يدك يا عثمان فبايعه . (3)
أقول : يستفاد من صريح هذا الكلام أمور :
1 ـ أنّ عمر بن الخطاب ما قدر أن يَعرف أفضلهم وأولاهم .
2 ـ أنّه جعل مَدار الإمرة كون النبيّ (ص) راضياً عنه ، ولم يُراع شرائط أخرى ، ولم يتوجّه إلى أحوالهم وأعمالهم بعد الإمرة .
3 ـ فإذا كان عمر بن الخطاب لم يتكلّم بالوحي وعن الله وبتعيين الله ، ولم يقد أن يُميّز الأفضل والأولى : فكيف يوصي بهذه الوصية المخصوصة .
4 ـ فإذا ادّعى عبد الرحمن : أن لا يألو عن أفضلهم ، فهل كان عثمان أفضل من عليّ علماً وعملاً وسابقةً ومقاماً ؟ .
ويقول البخاري : إنّ المِسور بن مَخرمة أخبره أنّ الرهط الذين ولاّهم عمر اجتمعوا فتشاوروا ، قال لهم عبد الرحمن : لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر ، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم ! فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن ، فلما ولُّوا عبد الرحمن أمرهم ، فمال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه ، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي ، حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان .
قال المِسور : طَرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت ، فقال : أراك نائماً ! فوالله ما اكتحلتُ هذه الليلة بكبير نوم ، انطلق فادعُ الزبير وسعداً ! فدعوتهما له فشاورهما ، ثمّ دعاني فقال : ادع ليّ علياً ! فدعوته فناجاه حتى إبهار الليل ، ثمّ قام عليّ من عنده وهو على طمع ، وقد كان عبد الرحمن يخشى من عليّ شيئاً ، ثمّ قال : ادع لي عثمان فدعوته ، فناجاه حتى فرّق بينهما المؤذّن بالصبح ، فلمّا صلّى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجّة مع عمر ، فلما اجتمعوا تشهّد عبد الرحمن ثمّ قال : أمّا بعد : يا علي إنّي قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان ، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً ، فقال : أبايعك على سنّة الله ورسوله والخليفتين من بعده ، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس ، المهاجرون الأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون . (4)
أقول : هذا الكلام ( قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان ) في وجه ترجيح عثمان وانتخابه : يخالف كلامه السابق وعهده بأنّ لا يألو عن أفضلهم ، فهل يكون تمايل الناس موجبا للأفضلية ؟! مع أنّ أكثر الناس لا يعقلون .
نعم ، تشكيل الحكومة الظاهرية يعتبر فيها أكثرية الآراء والأفكار ، وهذا غير مقام الحقيقة والخلافة المعنوية والمرجعية للأمور الدنيوية والدينية والوصاية عن رسول الله (ص) مسلم : بإسناده فإن عجل بي أمر ، فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين تُوفي رسول الله (ص) وهو عنهم راضٍ ، وإنّي قد علمت أنّ أقواما يطعنون في هذا الأمر ، أنا ضربتُهم بيدي هذه على الإسلام ، فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضُّلال . (5)
أقول : يستفاد من هذا الكلام أمور :
1 ـ يستفاد من هذا الكلام أنّ جمعاً ممّن أسلموا بعد غلبة الإسلام وفتح مكّة من الذين حملوا السلاح على رسول الله ، كانوا يطعنون في الخلافة ويجهدون أن تكون الإمرة فيهم ، وقد عبّر عنهم بقوله : فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلاّل . وهذا الكلام يشمل معاوية بل وينطبق عليه ، ولا سيّما بعد خلافة عليّ (ع) ؛ إذ هو من هؤلاء الستة وقد أجمع المهاجرون والأنصار عليه ، وقد طعن معاوية في خلافته وحمل السلاح عليه .
2 ـ المناط في الإمرة إن كان رضا الرسول (ص) عنه ! فأغلب أصحاب الرسول (ص) كانوا بهذه الصفة ، وإن كان لهؤلاء الستّة امتياز وخصوصية ، فهل كانوا متساوين من جميع الجهات حتى يكون الناس مختارين في اختيار أيّهم شاءوا ، أو أنّ لبعض منهم فضيلة وتفوّقا على بعض آخر ؟ وعلى كلّ فرض يبقى محذور وإشكال لا يخفى على من له أدنى تدبّر .
الطبقات : عن أبي جعفر قال عمر بن الخطاب لأصحاب الشورى : تشاوروا في أمركم فإن كان اثنان واثنان ، فارجعوا في الشورى ، وإن كان أربعة واثنان ، فخذوا صنف الأكثر . (6)
ويروي أيضاً : عن ابن عمر قال عمر : وان اجتمع رأي ثلاثة وثلاثة فاتّبعوا صنف عبد الرحمن بن عوف واسمعوا وأطيعوا .
ويروي أيضاً : عن سعيد قال عمر . ليُصل لكم صهيب ثلاثاً وتشاوروا في أمركم ، والأمر إلى هؤلاء الستّة ، فمن بَعل أمركم فاضربوا عنقه ، يعني من خالفكم .
ويروي أيضاً : عن أنس قال : أرسل عمر بن الخطاب إلى أبي طلحة قبل أن يموت بساعة ، فقال : يا أبا طلحة كن في خمسين من قومك من الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى ، فلا تتركهم يَمضي اليوم الثالث حتى يُؤمّروا أحدهم .
ويروي أيضاً : عن سماك أنّ عمر بن الخطاب لما حُضر قال : ان أستخلف فسنةٌ وإلاّ أستخلف فسنةٌ ، تُوفي رسول الله (ص) ولم يستخلف وتوفي أبو بكر فاستخلف ... وقال للأنصار أدخلوهم بيتاً ثلاثة أيام فإن استقاموا وإلاّ فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم . (7)
العقد الفريد وتاريخ الطبري : فقال العبّاس لعلي : لا تدخل معهم ! قال : أكره الخلاف ، قال : إذا ترى ما تكره . فلمّا أصبح عمر دعا عليّاً وعثمان وسعداً وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن عوام ، فقال : إنّي نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلاّ فيكم ، وقد قُبِض رسول الله (ص) وهو عنكم راضٍ ، إنّي لا أخاف الناس عليكم أن استقمتم ، ولكنّي أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم فيختلف الناس ، فانهضوا إلى حجرة عائشة ـ بإذن منها ـ فتشاوروا واختاروا رجلاً منكم ، ثمّ قال : لا تدخلوا حجرة عائشة ولكن كونوا قريباً ، ووضع رأسه وقد نزفه الدم ، فدخلوا فتناجوا ثمّ ارتفعت أصواتهم ، فقال عبد الله بن عمر : سبحان الله إنّ أمير المؤمنين لم يمت بعد ، فأسمعه ، فانتبه فقال : ألاَ أعرضوا عن هذا أجمعون ؛ فإذا متُّ فتشاوروا ثلاثة أيام وليُصل بالناس صُهيب ، ولا يأتينّ اليوم الرابع إلاّ وعليكم أمير عنكم ، ويحضر عبد الله بن عمر مشيراً ولا شيء له من الأمر ، وطلحة شريككم في الأمر فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم ، ومن لي بطلحة ! فقال عمر : أرجوا أن لا يخالف إن شاء الله ، وما أظن أن يلي إلاّ أحدٌ هذين الرجلين عليّ أو عثمان ، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين ، وإن ولي عليّ ففيه دعابة وأحرى به أن يحملهم على طريق الحقّ ... فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد ، فاشدخ رأسه ، أو اضرب رأسه بالسيف ، وإن اتّفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما ، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منه فحكّموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم ، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس ... وتلقّاه العبّاس فقال : عدلت عنا ، فقال : وما علّمك ؟ قال : قرن بي عثمان وقال : كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلا ، ورجلان رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن ، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون ، فيولّيها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن ، فول كان الآخران معي لم ينفعاني ! بله إنّي لا أرجوا إلاّ أحدهما ... فقال العبّاس : احفظ عنّي واحدة كلمّا عرض عليك القوم فقل لا ، إلاّ أن يُولّوك ، واحذر هؤلاء الرهط فإنّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا وأيم الله لا يناله إلاّ بشرّ لا ينفع معه خير ، فقال علي : أما لئن بقي عثمان لأذكرنّه ما أتى ، ولئن مات ليتداولنّها بينهم ولئن فعلوا ليجدنّي حيث يكرهون . (8)
أقول : في هذا الكلام مواقع للاعتبار :
1 ـ قال علي (ع) أكره الخلاف : إشارة إلى أهمّية الاتفاق والاتّحاد بين المسلمين والحذر من الخلاف في أيّ مورد كان ، وأمّا مقام الولاية والإمامة الحقيقية الثابتة الإلهية فهي غير متوقفة إلى أمر آخر ولا تلازم بينها وبين الحكومة الظاهرية .
2 ـ قال عمر : فتشاوروا واختاروا رجلاً . يدلّ على أنّ هذا الأمر مقامٌ اجتماعي ظاهري عرفي متحصّل باختيار الناس ، ولا ربط له بالأحكام الإلهية والأصول والفروع الدينية المنزّلة .
3 ـ قال عمر : وليُصلّ بالناس صُهيب . يدلّ على أنّ الإمامة في الصلاة لا تُلازم الإمامة والولاية المطلقة العامة ، فاستدلال بعضهم بصلاة أبي بكر على خلافته ضعيف ناقص .
4 ـ قول عمر : وأحرى بعليٍّ أن يحملهم على طريق الحقّ . هذه الصفة والخصيصة تدلّ على أنّ الدعابة وعدم كونه ليّنا ، واقعتان في طريق الحقّ والصدق ، فكيف يجوز الإعراض وصرف النظر عنه مع الاعتراف بهذا الاتصاف .
5 ـ قول عمر : ( وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ) ، ( فاضرب رؤسهما )  ، ( واقتلوا الباقين ) . هذا الحكم المنجز المقطوع من جانبه إن كان له حقيقة فكيف لم يُجرّ في زمان أبي بكر وزمان عليّ ، بل وكيف يقولون : إنّ خلاف أهل الجمل وصفّين مستند إلى اجتهادهم . وأيضاً إنّ الإباء المطلق إذا كان عن فكرٍ صائب ورأي خالصٍ كيف يوجب ضرب الرأس والقتل ولا سيّما إذا خلا عن التحريك والتّشتيت .
6 ـ قوله أيضاً : فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن . حقيقة هذا الحكم وسرّه ما أشار إليه عليّ (ع) في آخر الكلام من الطبري . وكما قال العبّاس : فإنّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر .
العقد الفريد وتاريخ الطبري : فتنافس القوم في الأمر وكثر بينهم الكلام ... فقال عبد الرحمن : أيكم يُخرج منها نفسه ويتقلّدها على أن يُوليَها أفضلكم ، فلم يُجبه أحد ، فقال : أنا أنخلع منها ، فقال عثمان : أنا أوّل من رضي فإنّي سمعت رسول الله (ص) يقول : أمين في الأرض أمين في السماء ، قال القوم : قد رضينا ، وعليّ ساكت ، فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ قال : أعطني موثقا لتُؤثرن الحقّ ولا تتّبع الهوى ولا تخصّ ذا رحم ولا تألو الأمّة ! فقال : أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدلّ وغيّر وأن ترضوا من اخترت لكم ، على ميثاق الله أن لا أخصّ ذا رحم لرحمه ولا آلو المسلمين ، فأخذ منهم ميثاقاً وأعطاهم مثله . فقال لعليّ : إنّك تقول : إنّي أحقّ من حضر بالأمر ؛ لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ، ولم تُبعد ، ولكن أرأيت لو صُرف هذا الأمر عنك فلم تحضر ، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحقّ بالأمر ؟ قال : عثمان . وخلا بعثمان فقال :
تقول : شيخ من بني عبد مناف ، وصهر رسول الله (ص) وابن عمّه ، لي سابقة وفضل ، فلم تُبعد ، فلمَ تُصرف هذا الأمر عنّي ، ولكن لو لم تحضر فأيّ هؤلاء الرهط تراه أحقّ به ؟ قال عليّ . ثمّ خلا بالزبير فكلّمه بمثل ما كلّم به علياً وعثمان فقال : عثمان . ثمّ خلا بسعد فكلّمه ، فقال : عثمان . فلقى عليّ سعداً فقال : ( اتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) ، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله (ص) ، وبرحم عمّي حمزة منك ، أن لا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيراً عليّ ، فإنّي أدلي بما لا يُدلي به عثمان .
ودار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله (ص) ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يُشاورهم ولا يخلو برجل إلا أمره بعثمان ، حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل أتى منزل المسور بن مخرمة بعد ابهيرار من الليل فأيقظه ، فقال : ألا أراك نائماً ولم أذق في هذه الليلة كثير غُمض ، انطلق فادع الزبير وسعداً فدعاهما ، فبدأ بالزبير في مؤخّر المسجد في الصفة التي تلى دار مروان ، فقال له : خلّ ابني عبد مناف وهذا الأمر ، قال : نصيبي لعليّ . وقال لسعد : أنا وأنت كلالة ( وفي العقد : كالآلة ) فاجعل نصيبك لي فأختار ؟ قال : إن اخترت نفسك ، فنعم ! وان اخترت عثمان فعليّ أحبّ إليّ ، أيّها الرجل بايع لنفسك وأرحنا وارفع رؤوسنا ! قال : يا أبا إسحاق : إنّي قد خلعت نفسي منها على أن أختار ، ولو لم أفعل وجُعل الخيار إليّ لم أردّها ... قال ، قال سعد : فإنّي أخاف أن يكون الضعف قد أدركك فامض لرأيك فقد عرفت عهد عمر ! وانصرف الزبير وسعد ، وأرسل المسور بن مخرمة إلى عليّ فناجاه طويلاً وهو لا يشكّ أنّه صاحب الأمر ، ثمّ نهض ، وأرسل المسور إلى عثمان فكان في نجيّهما حتى فرّق بينهما أذان الصبح ... فلما صلّوا الصبح جمع الرهط ... فقال عمّار : إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع علياً ، فقال المقداد بن الأسود : صدق عمّار ؛ إن بايعت علياً قلنا : سمعنا وأطعنا . قال ابن أبي سرح : إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان ، فقال عبد الله بن أبي ربيعة : صدق ، إن بايعت عثمان قلنا : سمعنا وأطعنا . فشتم عمّار ابن أبي سرح وقال : متى كنت تنصح المسلمين ؟! فتكلّم بنو هاشم وبنو أميّة ، فقال عمّار : أيّها الناس إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ أكرمنا بنبيّه وأعزّنا بدينه فأنّى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم ! فقال رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يا ابن سُمية ، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها ، فقال سعد بن أبي وقاص : يا عبد الرحمن افرغ قبل أن يفتتن الناس ! .
فقال عبد الرحمن : إنّي قد نظرت وشاورت ، فلا تجعلنّ أيّها الرهط على أنفسكم سبيلاً ، ودعا علياً ، فقال : عليك عهد الله وميثاقه ، لتعملنّ بكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ! قال : أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي .
ودعا عثمان ، فقال له مثل ما قال لعليّ ، قال : نعم . فبايعه .
فقال عليّ : حبوته حبو دهر ، ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ، والله ما ولّيت عثمان إلاّ ليردّ الأمر إليك ، والله كلّ يومٍ هو في شأن . فقال عبد الرحمن : يا عليّ لا تجعل على نفسك سبيلاً ، فإنّي قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان ، فخرج عليّ وهو يقول : سيبلغ الكتاب أجله ، فقال المقداد : يا عبد الرحمن ، أمَا والله لقد تركته من الذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون ، فقال : يا مقداد ، والله لقد اجتهدتُ للمسلمين ! قال : إن كنت أردت بذلك الله ، فأثابك الله ثواب المحسنين ، فقال المقداد : ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم إنّي لأعجب من قريش أنّهم تركوا رجلاً ما أقول أنّ أحدا أعلم ولا أقضى منه بالعدل ، أما والله لو أجد عليه أعواناً . (9)
أقول في هذا الكلام موارد للاعتبار :
1 ـ فتنافس القوم : هذا كما تنافسوا في السقيفة ثمّ وقعت أخذ الآراء بالتزوير الذي لا يخفى على المحقّق المنصف .
2 ـ أيّكم يُخرج نفسه : بعد أن رأى عبد الرحمن أن لا نصيب له في هذا الأمر ، استمسك بهذا التزوير الدقيق ، لحفظ مقامه ولإعمال غرضه في أمر الخلافة لعثمان .
3 ـ أنا أوّل من رضي : هذا القول يدلّ على أنّ الاختيار التام المفوّض لعبد الرحمن إنّما يتمّ لتأييد عثمان ، ويدلّ عليه سكوت عليّ (ع) .
4 ـ أعطني موثقاً : يكشف عن أنّ علياً (ع) ما صحّ عنده الحديث المرويّ ( أمين في الأرض أمين في السماء ) ، مضافاً إلى أنّ في متن الحديث ضعفاً ، حيث أنّ كونه أمينا في السماء لا معنى له ، وإن أريد كونه أميناً عند أهل الأرض وأهل السماء ينقضه أنّ من خير أهل الأرض عليّ (ع) وهو يطلب منه موثقاً .
5 ـ ولا تتبع الهوى ولا تخصّ ذا رحم : شرط هذه القيود يثبت إتّباع الهوى والعمل بغرض .
6 ـ إنّي أحقّ من حضر بالأمر : هذه الدعوى من عليّ (ع) مستمرة من يوم ارتحل النبيّ (ص) إلى آخر عمره الشريف ، وقد ثبت أنّه صادق ومع الحقّ ويحبّه الله ورسوله .
7 ـ بمبلغ علمي وطاقتي : هذا هو الحقّ الصريح ، فإنّ علياً (ع) لا أقل أنّه مجتهد ، ولا يجوز له لمجتهد آخر ، مع أنّه أعلم الأمّة وأقضاها وأفضلها وأتقاها ، بل نعتقد بأنّه خليفة الله ووليّه والمنصوب منه والمعلَّم من لدنه .
8 ـ ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم : فليعتبر من هذا الكلام كلّ معتبر .
ويروي الطبري : بعد نقل كلمات الأربعة من أهل الشورى وخطبتهم ، ثمّ تكلّم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال : الحمد لله الذي بعث محمّداً منّا نبيّاً ، وبعثه إلينا رسولاً ، فنحن بيت النبوّة ومعدن الحكمة ، وأمان أهل الأرض ونجاة لمن طلب ، لنا حقّ إن نُعطه نأخذه ، وإن نُمنعه نركب أعجاز الأبل ولو طال السُرى ، لو عهد إلينا رسول الله (ص) لأنفذنا عهده ، ولو قال لنا قولاً ، لجادلنا عليه حتى نموت ... إلخ . (10)
أقول : في هذه الكلمات العالية من عليّ (ع) إثبات لمقامه وعلوّ منزلته وحقيقة ولايته وخلافته من رسول الله (ص) ، حيث إنّه أظهر في مجلس الشورى بكونه من بيت النبوّة وأنّه معدن الحكمة ، وأمان أهل الأرض ، ونجاة لمن طلب ، ولم ينكر هذه المقامات له أحدٌ من الحاضرين ، مع أنّه لا يمكن دعوى هذه المراتب من أحد من سائر الناس .
يروي في العقد الفريد : في كلام لعمر : أمَا والله لولا دُعابة فيه ما شككتُ في ولايته ، وإن نزلت على رغم أنف قريش . (11)
الفائق : عليّ رضي الله عنه قال يوم الشورى : لنا حقّ إن نُعطه نأخذه ، وإن نُمنَعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السُرى . (12)
قال الزمخشري : هذا مَثَل لركوبه الذلّ والمَشقّة وصبره عليه وان تطاول ذلك ، وأراد بركوب أعجاز الإبل كونه ردفاً وتابعاً .
أقول : يقول أنّ الولاية الظاهرية من آثار الولاية الحقيقية ، ولمّا كانت حقيقة الولاية لأهل البيت ولأمير المؤمنين عليّ (ع) : فتكون الخلافة الظاهرية والولاية والحكومة العرفية أيضاً من حقوقهم وشئونهم .
أمّا الولاية الحقيقية : فهي ثابتة لهم ، ومن آثارها النورانية والمعرفة والعلم والإحاطة الملكوتية والارتباط الغيبي ، ويشير إليها بقوله : فنحن بيت النبوّة ، ومعدن الحكمة ، وأمان أهل الأرض ، ونجاة لمن طلب .
وأمّا الولاية الظاهرية : فهي متوقّفة على إقبال الرعية وخضوعها وانقيادها ، فإن أطاعوا وسلّموا وخضعوا لهم ، يَقبلون طاعتهم ويهدونهم إلى مصالحهم ويُرشدونهم إلى سعادتهم ويُجرون قوانين العدل فيما بينهم . ويشير إليها بقوله :  إن نعطه نأخذه .
وإذا امتنعوا من الطاعة ولم يخضعوا ولم يستقرّوا تحت لواء ولايتهم فلا يُظهرون من أنفسهم الحرص والميل الشديد إلى حيازتها وتحصيلها وأخذها ، بل يجعلون أنفسهم في إثر الحكومة ويعيشون مع الناس ويُفيضون ويُرشدون على حسب طلب الناس وإقبالهم واقتضاء أحوالهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الملل والنحل ، ج 1 ، ص 18 .
2 ـ البدء والتاريخ ، ج 5 ، ص 190 .
3 ـ البخاري ، ج 2 ، ص 184 .
4 ـ البخاري ، ج 4 ، ص 151 .
5 ـ مسلم ، ج 2 ، ص 81 .
6 ـ الطبقات ، ج 3 ، ص 61 .
7 ـ نفس المصدر السابق ، ص 342 .
8 ـ العقد  الفريد ، ج 4 ، ص 277 وتاريخ الطبري ، ج 5 ، ص 3 . 
9 ـ العقد الفريد ، ج 4 ، ص277 . وتاريخ الطبري ، ج 5 ، ص 36 . 
10 ـ الطبري ، ج 5 ، ص 39 .
11 ـ العقد الفريد ، ج4 ، ص 282
12 ـ الفائق ، ج 2 ، ص 119 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page