كتب الله النصر لأمير المؤمنين (عليه السلام) على مخالفيه، ووضعت الحرب أوزارها وانقشع غبار المعركة، ونادى منادي الإمام (عليه السلام) يعلن العفو العام: ألا لايجهز على جريح ولا يتبع مول ولا يطعن في وجه مدبر ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، وأن لا يؤخذ شيء من أموال أصحاب الجمل إلاّ ما وجد في عسكرهم من سلاح أو غيره ممّا استخدم في القتال وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم[9].
وأمر الإمام عليّ (عليه السلام) محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر أن يحملوا هودج عائشة من بين القتلى وسط ساحة المعركة وينحّوه جانباً، وأن يتعهّد محمد أمر اُخته عائشة، فلمّا كان من آخر الليل أدخلها محمد البصرة فأنزلها في دار عبد الله ابن خلف الخزاعي.
وطاف الإمام (عليه السلام) في القتلى من أصحاب الجمل، وكان يخاطب كلاًّ منهم ويكرّر القول: قد وجدتُ ما وعدني ربّي حقاً فهل وجدتَ ما وعدك ربّك حقاً وقال أيضاً: ما ألوم اليوم من كفّ عنّا وعن غيرنا ولكنّ المليم الذي يقاتلنا[10].
وأقام الإمام (عليه السلام) في ظاهر البصرة ولم يدخلها، وأذن للناس في دفن موتاهم فخرجوا إليهم فدفنوهم[11] ثمّ دخل (عليه السلام) مدينة البصرة معقل الناكثين فانتهى الى المسجد فصلّى فيه ثمّ خطب في الناس وذكّرهم بمواقفهم ومواقف الناكثين لبيعته فناشدوه الصفح والعفو عنهم، فقال (عليه السلام): قد عفوت عنكم، فإيّاكم والفتنة فإنّكم أوّل الرعيّة نكث البيعة، وشقّ عصا هذه الاُمّة ثمّ أقبلت الجماهير ووجوه الناس لمبايعة الإمام (عليه السلام)[12] وبعد ذلك دخل أمير المؤمنين بيت المال في البصرة فلمّا رأى كثرة المال قال: غُرّي غيري وكرّرها مراراً وأمر أن يقسّم المال بين الناس بالسوية، فنال كلّ فرد منهم خمسمائة درهم وأخذ هو كأحدهم ولم يبقَ شيء من المال فجاءه رجل لم يحضر الوقعة يطالب بحصّته، فدفع إليه الإمام ما أخذه لنفسه ولم يصب شيئاً[13] ثمّ أمر أمير المؤمنين بتجهيز عائشة وتسريحها الى المدينة، وأرسل معها أخاها وعدداً من النساء ألبسهنّ العمائم وقلّدهن السيوف لرعاية شؤونها وأوصلنها الى المدينة ولكنّ عائشة لم تحسن الظنّ بأمير المؤمنين وتصوّرت أنّ الإمام لم يرعَ حرمتها وما أن علمت أنّ الإمام (عليه السلام) بعث معها النساء أعلنت ندمها على خروجها وفشلها وإثارتها للفتنة، فكانت تكثر من البكاء[14].
***************
[9] تأريخ اليعقوبي: 2 / 172، ومروج الذهب: 2 / 371.
[10] الإرشاد للمفيد: 1 / 256 ط مؤسسة آل البيت(عليهم السلام).
[11] الكامل في التأريخ: 3 / 255.
[12] تأريخ الطبري: 3 / 544، والإرشاد للشيخ المفيد: 137 .
[13] شرح النهج: 1 / 250.
[14] الإمامة والسياسة: 98، ومروج الذهب للمسعودي: 2 / 379، والمناقب للخوارزمي: 115، والتذكرة للسبط ابن الجوزي: 80.