ولم يشأ الإمام علي (ع) أن يحمل السيف ويأخذ حقه بقوة السلاح لأمرين كما يبدو للباحث في تاريخه وهما :
أولاً : لأنه لم يجد تجاوباً كافياً لدى المؤيدين له ، مما كان يجعل مطالبته نوعا من المغامرة .
ثانيا : خشيته على الإسلام أن يرتد عنه أولئك الذين لَمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم .
ولقد أشار (ع) إلى هذين الأمرين في أكثر من مناسبة نذكر منها قوله في حديث مفصل يأتي إن شاء اللـه : فقلت يا رسول اللـه فما تعهد إليَّ إذا كان ( ذلك ) ؟ فقال : إن وجدت أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم وإن لم تجد أعواناً كُفَّ يدَك ، واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوماً [23].
وقال وهو يوضح موقفه من السلطة عموماً بعد بيعة عثمان : لقد علمتم : أني أحق الناس بها من غيري وواللـه لأَسَلّمَنَّ ما سلمتْ أمورُ المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عَلَيَّ خاصة ، التماساً لأجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه [24].
ولقد طالب الإمام (ع) بحقه ومشى إلى المهاجرين والأنصار وحرّضهم على الدفاع عنه . وأنهض كبار شيعته وأهل بيته لإعلان حقه مما جعل الناس يعرفون بخطأ مبادرتهم للبيعة !. بل جعل الخليفة الثاني يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقَى اللـه المسلمين شرَّها فمن عاد إليها فاضربوا عنقه .
إن البعــض يحاول أن يوهمنـا أن انتقال السلطة إلى الخليفة الأول تَمَّ بهدوء من أجـل أن يضفي على عهده صبغة القداسة والعصمة عن الخطأ ولعل منشأ هذا الرأي الحمية للإســلام بما يخالف واقعيــــات التاريخ .
والواقع أن خلط الدين بالتراث ومحاولة تقديس الماضي بإيجابياته وسلبياته هو المسؤول عن مثل هذه النظرة الساذجة .
إن عشرات النصوص الدينية والتاريخية التي لايرقى إليها أدنى شك ، تؤكد أن مَن كان حول الرسول لم يكونوا إلاّ بشراً ، فيهم الصالحون ، وفيهم الكثير من المنافقين والفاسقين ، وكان فيهم من قال عنه الإمام (ع) : لقد رأيت أصحاب محمد (ص) فما أرى أحداً يشبههم منكم ! لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً وقد باتوا سُجَّداً وقياماً ، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم [25] .
كما كان فيهم من عشق السلطة وسعى إليها على تلال من جثث القتلى دون أي وازع من دين أو ضمير ، وكان فيهم مَنْ أكثَر من الكذب حتى حذَّر الرسول (ص) من ذلك قائلا : ستكثر من بعدي القالة فمن كذَب عَلَيَّ فليتبوَّأ مقعده من النار .
وكان فيهم من قال عنه اللـه سبحانه :« وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللـه شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللـه الشَّاكِرِينَ » (آل عمران/144)
وقال عز من قائل أيضاً :« وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِنَ الاَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ » (التوبة/101)
وقال تعالى : « وَيَـــوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الاَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُـــمَّ وَلَّيْتُم مُدْبِرِيـــنَ » (التوبة/25)
وقال سبحانه :« يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللـه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللـه وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللـه يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللـه وَاسِعٌ عَلِيمٌ » (المائدة/54)
وقد نقل المحدِّثون جميعاً عن الرسول (ص) كثيراً من النصوص التي تؤكد أن بعض أصحابه ينحرفون من بعده إذن كيف يمكن تصور القداسة فيهم ، وأنهم سلَّموا السُّلطة إلى أهلهـا من دون صراع ، علماً بأن الروايات التاريخية الصحيحة شهدتْ بوجود هذا الصراع على أشده ، منذ يوم السقيفة ثـم ولــــم يلبث أن اصطبغ الصراع بلون الدم في حادثة مالك بن نويرة الذي أبى إعطاء الزكاة للخليفة الأول ، فبعث إليه قائداً عربيّاً عريقاً في الجاهلية ممن انضمَّ إلى الرسالة بعد الفتح ، وأضحى سيفاً مسلولاً بيد الدولة وهو خالد بن الوليد ، الذي فتك بمالك وانتهك عرضه وافتعل بزوجته ليلة قتلِه وجعله عبرة لكل القبائل التي ربما فكرت بالتمرد على السلطة الجديدة ثم باركت عملَه هذه السلطة الجديدة ؟ واستمرت سلسلة الصراعات حتى انتهت بالحروب الداخلية التي جرت في عهد الإمام أمير المؤمنين (ع) فلولا وجود خلفيات لهذه الصراعات لم تكن لتظهر بتلك الصورة الدموية .
بيد أن الباحث يقتنع من خلال عشرات الشواهد التاريخية أن الإمام عليّاً (ع) لم يكن يرغب في تحويل الصراع إلى تنافس سياسي على السلطة ولا يرضى بتصعيده إلى حرب دامية ، ولا حتى باعتزال الساحة السياسية ، بل كان يشارك الخلفاء في كافة الشؤون ، ويلي أمورهم ويحل معضلاتهم .
و من جهة ثانية ، كان الخلفاء يذعنون لفضل الإمام (ع) ويعملون بنصائحه وقضائه ويشيدون به في أكثر من مناسبة فلقد شاع قول الخليفة الأول. أقيلوني فلست بخيركم وعليٌّ فيكم وتواتر الحديث عن الخليفة الثاني : لولا عليٌّ لَهلك عُمَر .
حيث قالها في أكثر من مائة مناسبة وقال أيضاً : معضلة ليس لها أبو الحسن .
وإنما قالها عمر لمزيد من المشاكل التي حلها الإمام (ع) وأراح منها المسلمين .
وقد ثبت تاريخيّاً : أن أصحاب الإمام (ع) قد تولوا كثيراً من المناصب الإدارية والعسكرية للدولة فسلمان تولى ولاية فارس في المدائن ، وهو من أقرب أنصار الإمام (ع) وأشهدهم إخلاصاً له والإمام الحسن المجتبى (ع) شارك في جيش الإسلام الذي فتح اللـه على يديه بلاد الفرس ، كما أن الإمام نفسه استخلفه الخليفة الثاني عند ذهابه إلى فلسطين ونستوحي من حديث مأثور عن الإمام الصادق (ع) أن الحكم في عهد الخليفة الأول والثاني كان يشبه حكماً ائتلافيّاً بين الأجنحة المختلفة بينما استبد جناح بني أمية بالحكم في عهد الخليفة الثالث وخلص الحكم بعد الإنتفاضة وقتل الخليفة للجناح الأول الذي كان يقوده الإمام علي وأولي البصائر من المهاجرين والأنصار : ولذلك ثارت ثائرة أصحاب عُثمان وتمرد الأمويون ومَن اتَّبعهم على حكم الإمام علي (ع) .
***************
([23]) موسوعة بحار الانوار : ج 28 ، ص 191 .
([24]) المصدر : ص 102 .
([25]) نهج البلاغة : ص 143 .